فصل: القراءات والوقوف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{فسوى} وجميع آياتها مثل (طه) وكذلك في سورة و(الشمس) و(الليل) و(الضحى) و(اقرأ باسم ربك) من قوله: {أرأيت الذي ينهى} إلى آخر السورة.
{قدر} بالتخفيف: على {بل يؤثرون} على الغيبة: قتيبة وأبو عمرو ويعقوب.

.الوقوف:

{الأعلى} o لا {فسوى} o ص {فهدى} o ك {المرعى} o ك {أحوى} o ط {فلا تنسى} o لا {الله} ط {يخفى} ج o للعدول.
وقيل: قوله: {ونيسرك} معطوف على {سنقرئك} وقوله: {إنه يعلم الجهر وما يخفى} اعتراض فلا وقف {لليسرى} o ك والوصل أليق {الذكرى} o ج {يخشى} o لا {الأشقى} o لا {الكبرى} ج o لأن (ثم) لترتيب الأخبار {ولا يحيا} o ط لأن ما بعده مستأنف {تزكى} o لا {فصلى} o ط لأن {بل} للإضراب {الدنيا} o بناء على أن الواو للاستئناف أو الحال أوجه {وأبقى} o ط {الأولى} o لا {وموسى} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى (1)} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
في قوله: {اسم رَبّكَ} قولان:
أحدهما: أن المراد الأمر بتنزيه اسم الله وتقديس.
والثاني: أن الاسم صلة والمراد الأمر بتنزيه الله تعالى.
أما على الوجه الأول ففي اللفظ احتمالات أحدها: أن المراد نزه اسم ربك عن أن تسمي به غيره، فيكون ذلك نهيا علي أن يدعى غيره باسمه، كما كان المشركون يسمون الصنم باللات، ومسيلمة برحمان اليمام.
وثانيها: أن لا يفسر أسماءه بما لا يصح ثبوته في حقه سبحانه نحو أن يفسر الأعلى بالعلو في المكان والاستواء بالاستقرار بل يفسر العلو بالقهر والاقتداء والاستواء بالاستيلا.
وثالثها: أن يصان عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم، ويدخل فيه أن يذكر تلك الأسماء عند الغفلة وعدم الوقوف على معانيها وحقائقه.
ورابعها: أن يكون المراد بسبح باسم ربك، أي مجده بأسمائه التي أنزلتها عليك وعرفتك أنها أسماؤه كقوله: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] ونظير هذا التأويل قوله تعالى: {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم} [الواقعة: 74] ومقصود الكلام من هذا التأويل أمران:
أحدهما: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى}، أي صل باسم ربك، لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدي.
والثاني: أن لا يذكر العبد ربه إلا بأسماء التي ورد التوقيف بها، قال الفراء: لا فرق بين {سَبِّحِ اسم رَبّكَ} وبين {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ} قال الواحدي: وبينهما فرق لأن معنى {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ} نزه الله تعالى بذكر اسمه المنبئ عن تنزيهه وعلوه عما يقول المبطلون، و{سَبِّحِ اسم رَبّكَ} أي نزه الاسم من السوء وخامسها: قال أبو مسلم: المراد من الاسم هاهنا الصفة، وكذا في قوله تعالى: {وَللَّهِ الأسماء الحسنى فادعوه بِهَا} [الأعراف: 180] أما على الوجه الثاني وهو أن يكون الاسم صلة ويكون المعنى سبح ربك وهو اختيار جمع من المحققين، قالوا: لأن الاسم في الحقيقة لفظة مؤلفة من حروف ولا يجب تنزيهها كما يجب في الله تعالى، ولكن المذكور إذا كان في غاية العظمة لا يذكر هو بل يذكر اسمه فيقال: سبح اسمه، ومجد ذكره، كما يقال: سلام على المجلس العالي، وقال لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

أي السلام وهذه طريقة مشهورة في اللغة، ونقول على هذا الوجه: تسبيح الله يحتمل وجهين الأول: أن لا يعامل الكفار معاملة يقدمون بسببها على ذكر الله بما لا ينبغي على ما قال: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، الثاني: أنه عبارة عن تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به، في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، وفي أسمائه وفي أحكامه، أما في ذاته فأن يعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض، وأما في صفاته، فأن يعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهية ولا ناقصة، وأما في أفعاله فأن يعتقد أنه مالك مطلق، فلا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور، وقالت المعتزلة هو أن يعتقد أن كل ما فعله فهو صواب حسن، وأنه لا يفعل القبيح ولا يرضى به، وأما في أسمائه فأن لا يذكر سبحانه إلا بالأسماء التي ورد التوقيف بها، هذا عندنا وأما عند المعتزلة فهو أن لا يذكر إلا بالأسماء التي لا توهم نقصاً بوجه من الوجوه سواء ورد الإذن بها أو لم يرد، وأما في أحكامه فهو أن يعلم أنه ما كلفنا لنفع يعود إليه.
بل إما لمحض المالكية على ما هو قولنا، أو لرعاية مصالح العباد على ما هو قول المعتزلة.
المسألة الثانية:
من الناس من تمسك بهذه الآية في أن الاسم نفس المسمى، فأقول: إن الخوض في الاستدلال لا يمكن إلا بعد تلخيص محل النزاع، فلابد هاهنا من بيان أن الاسم ما هو والمسمى ما هو حتى يمكننا أن نخوض في الاسم هل هو نفس المسمى أم لا، فنقول: وإن كان المراد من الاسم هو هذا اللفظ، وبالمسمى تلك الذات، فالعاقل لا يمكنه أن يقول: الاسم هو المسمى، وإن كان المراد، من الاسم هو تلك الذات، وبالمسمى أيضًا تلك الذات كان قولنا الاسم نفس المسمى، هو أن تلك الذات نفس تلك الذات، وهذا لا يمكن أن ينازع فيه عاقل، فعلمنا أن هذه المسألة في وصفها ركيكة.
وإن كان كذلك كان الخوض في ذكر الاستدلال عليه أرك وأبعد بل هاهنا دقيقة، وهي أن قولنا: اسم لفظة جعلناها اسماً لكل ما دل على معنى غير مقترن بزمان، والاسم كذلك فيلزم أن يكون الاسم إسماً لنفسه فههنا الاسم نفس المسمى فلعل العلماء الأولين ذكروا ذلك فاشتبه الأمر على المتأخرين، وظنوا أن الاسم في جميع المواضع نفس المسمى، هذا حاصل التحقيق في هذه المسألة، ولنرجع إلى الكلام المألوف، قالوا: الذي يدل على أن الاسم نفس المسمى أن أحدا لا يقول سبحان اسم الله وسبحان اسم ربنا فمعنى {سَبِّحِ اسم رَبّكَ} سبح ربك، والرب أيضًا اسم فلو كان غير المسمى لم يجز أن يقع التسبيح عليه، واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لما بينا في المسألة الأولى أنه يمكن أن يكون الأمر وارداً بتسبيح الاسم، ويمكن أن يكون المراد تسبيح المسمى وذكر الاسم صلة فيه.
ويمكن أن يكون المراد سبح باسم ربك كما يقال: {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم} [الواقعة: 74] ويكون المعنى سبح ربك بذكر أسمائه.
المسألة الثالثة:
روى عن عقبة بن عامر أنه لما نزل قوله تعالى: {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم} قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزل قوله: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} قال: «اجعلوها في سجودكم» ثم روي في الأخبار «أنه عليه السلام كان يقول: في ركوعه: سبحان ربي العظيم. وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى».
ثم من العلماء من قال: إن هذه الأحاديث تدل على أن المراد من قوله: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ} أي صل باسم ربك، ويتأكد هذا الاحتمال بإطباق المفسرين على أن قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] ورد في بيان أوقات الصلاة.
المسألة الرابعة:
قرأ علي عليه السلام وابن عمر: {سبحان ربي الأعلى الذي خلق فسوى} ولعل الوجه فيه أن قوله: {سَبِّحِ} أمر بالتسبيح فلابد وأن يذكر ذلك التسبيح وما هو إلا قوله: سبحان ربي الأعلى.
المسألة الخامسة:
تمسكت المجسمة في إثبات العلو بالمكان بقوله: {رَبّكَ الأعلى} والحق أن العلو بالجهة على الله تعالى محال، لأنه تعالى إما أن يكون متناهياً أو غير متناه، فإن كان متناهياً كان طرفه الفوقاني متناهياً، فكان فوقه جهة فلا يكون هو سبحانه أعلى من جميع الأشياء وأما إن كان غير متناه فالقول: بوجود أبعاد غير متناهية محال وأيضًا فلأنه إن كان غير متناه من جميع الجهات يلزم أن تكون ذاته تعالى مختلطة بالقاذورات تعالى الله عنه، وإن كان غير متناه من بعض الجهات ومتناهياً من بعض الجهات كان الجانب المتناهي مغايراً للجانب غير المتناهي فيكون مركباً من جزأين، وكل مركب ممكن، فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود، هذا محال.
فثبت أن العلو هاهنا ليس بمعنى العلو في الجهة، مما يؤكد ذلك أن ما قبل هذه الآية وما بعدها ينافي أن يكون المراد هو العلو بالجهة، أما قبل الآية فلأن العلو عبارة عن كونه في غاية البعد عن العالم، وهذا لا يناسب استحقاق التسبيح والثناء والتعظيم، أما العلو بمعنى كمال القدرة والتفرد بالتخليق والإبداع فيناسب ذلك، والسورة هاهنا مذكورة لبيان وصفه تعالى بما لأجله يستحق الحمد والثناء والتعظيم، وأما ما بعد هذه الآية فلأنه أردف قوله: {الأعلى} بقوله: {الذي خلق فسوى} والخالقية تناسب العلو بحسب القدرة لا العلو بحسب الجهة.
المسألة السادسة:
من الملحدين من قال: بأن القرآن مشعر بأن للعالم ربين أحدهما عظيم والآخر أعلى منه، أما العظيم فقوله: {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم} وأما الأعلى منه فقوله: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} فهذا يقتضي وجود رب آخر يكون هذا أعلى بالنسبة إليه.
واعلم أنه لما دلت الدلائل على أن الصانع تعالى واحد سقط هذا السؤال، ثم نقول ليس في هذه الآية أنه سبحانه وتعالى أعلى من رب آخر، بل ليس فيه إلا أنه أعلى، ثم لنا فيه تأويلات.
الأول: أنه تعالى أعلى وأجل وأعظم من كل ما يصفه به الواصفون، ومن كل ذكر يذكره به الذاكرون، فجلال كبريائه أعلى من معارفنا وإدراكاتنا، وأصناف آلائه ونعمائه أعلى من حمدنا وشكرنا، وأنواع حقوقه أعلى من طاعاتنا وأعمالنا.
الثاني: أن قوله: {الأعلى} تنبيه على استحقاق الله التنزيه من كل نقص فكأنه قال سبحانه فإنه: الأعلى أي فإنه العالي على كل شيء بملكه وسلطانه وقدرته، وهو كما تقول: اجتنبت الخمر المزيلة للعقل أي اجتنبتها بسبب كونها مزيلة للعقل.
والثالث: أن يكون المراد بالأعلى العالي كما أن المراد بالأكبر الكبير.
المسألة السابعة:
روي أنه عليه السلام كان يحب هذه السورة ويقول: «لو علم الناس علم سبح اسم ربك الأعلى لرددها أحدهم ست عشرة مرة» وروى: «أن عائشة مرت بأعرابي يصلي بأصحابه فقرأ: سبح اسم ربك الأعلى، الذي يسر على الحبلى، فأخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشاً، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى، ألا بلى ألا بلى. فقالت عائشة: لا آب غائبكم، ولا زالت نساؤكم في لزبة» والله أعلم.
أما قوله تعالى: {الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى} فاعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمر بالتسبيح، فكأن سائلاً قال: الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة، فما الدليل على وجود الرب؟ فقال: {الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى} واعلم أن الاستدلال بالخلق والهداية هي الطريقة المعتمدة عند أكابر الأنبياء عليهم السلام والدليل عليه ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام، أنه قال: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] وحكى عن فرعون أنه لما قال لموسى وهرون عليهما السلام: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} [طه: 49]؟ قال موسى عليه السلام: {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شيء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] وأما محمد عليه السلام فإنه تعالى أول ما أنزل عليه هو قوله: {اقرأ باسم رَبّكَ الذي خلق خلق الإنسان مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2 1] هذا إشارة إلى الخلق، ثم قال: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الذي عَلَّمَ بالقلم} [العلق: 4 3] وهذا إشارة إلى الهداية، ثم إنه تعالى أعاد ذكر تلك الحجة في هذه السورة، فقال: {الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى} وإنما وقع الاستدلال بهذه الطريقة كثيراً لما ذكرنا أن العجائب والغرائب في هذه الطريقة أكثر، ومشاهدة الإنسان لها، واطلاعه عليها أتم، فلا جرم كانت أقوى في الدلالة.
ثم هاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
قوله: {خلق فسوى} يحتمل أن يريد به الناس خاصة، ويحتمل أن يريد الحيوان، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوهاً أحدها: أنه جعل قامته مستوية معتدلة وخلقته حسنة، على ما قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}
[التين: 4] وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه، فقال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين}، وثانيها: أن كل حيوان فإنه مستعد لنوع واحد من الأعمال فقط، وغير مستعد لسائر الأعمال، أما الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع أفعال الحيوانات بواسطة آلات مختلفة فالتسوية إشارة إلى هذا.
وثالثها: أنه هيأ للتكليف والقيام بأداء العبادات، وأما من حمله على جميع الحيوانات.
قال: المراد أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من أعضاء وآلات وحواس، وقد استقصينا القول في هذا الباب في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، وأما من حمله على جميع المخلوقات، قال: المراد من التسوية هو أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات، خلق ما أراد على وفق ما أراد موصوفاً بوصف الأحكام والإتقان، مبرأ عن الفسخ والاضطراب.
المسألة الثانية:
قرأ الجمهور: {قدر} مشددة وقرأ الكسائي على التخفيف، أما قراءة التشديد فالمعنى أنه قدر كل شيء بمقدار معلوم، وأما التخفيف فقال القفال: معناه ملك فهدى وتأويله: أنه خلق فسوى، وملك ما خلق، أي تصرف فيه كيف شاء وأراد، وهذا هو الملك فهداه لمنافعه ومصالحه، ومنهم من قال: هما لغتان بمعنى واحد، وعليه قوله تعالى: {فَقدرنَا فَنِعْمَ القادرون} [المرسلات: 23] بالتشديد والتخفيف.
المسألة الثالثة:
أن قوله: {قدر} يتناول المخلوقات في ذواتها وصفاتها كل واحد على حسبه فقدر السموات والكواكب والعناصر والمعادن والنبات والحيوان والإنسان بمقدار مخصوص من الجثة والعظم، وقدر لكل واحد منها من البقاء مدة معلومة ومن الصفات والألوان والطعوم والروائح والأيون والأوضاع والحسن والقبح والسعادة والشقاوة والهداية والضلالة مقداراً معلوماً على ما قال: {وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقدر مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21] وتفصيل هذه الجملة مما لا يفي بشرحه المجلدات، بل العالم كله من أعلى عليين إلى أسفل السافلين، تفسير هذه الآية.
وتفصيل هذه الجملة:
أما قوله: {فهدى} فالمراد أن كل مزاج فإنه مستعد لقوة خاصة وكل قوة فإنها لا تصلح إلا لفعل معين، فالتسوية والتقدير عبارة عن التصرف في الأجزاء الجسمآنية وتركيبها على وجه خاص لأجله تستعد لقبول تلك القوى، وقوله: {فهدى} عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء بحيث تكون كل قوة مصدراً لفعل معين، ويحصل من مجموعها تمام المصلحة، وللمفسرين فيه وجوه، قال مقاتل: هدى الذكر للأنثى كيف يأتيها، وقال آخرون: هداه للمعيشة ورعاه، وقال آخرون: هدى الإنسان لسبل الخير والشر والسعادة والشقاوة، وذلك لأنه جعله حساساً دراكاً متمكناً من الإقدام على ما يسره والإحجام عما يسوءه كما قال: {إِنَّا هديناه السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3] وقال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8 7] وقال السدي: قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج وقال الفراء: قدر فهدى وأضل، فاكتفى بذكر أحداهما: كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] وقال آخرون: الهداية بمعنى الدعاء إلى الإيمان كقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} [الشورى: 52] أي تدعو، وقد دعى الكل إلى الإيمان، وقال آخرون: هدى أي دلهم بأفعاله على توحيده وجلال كبريائه، ونعوت صمديته، وفردانيته، وذلك لأن العاقل يرى في العالم أفعال محكمة متقنة منتسقة منتظمة، فهي لا محالة تدل على الصانع القديم، وقال قتادة في قوله: {فهدى} إن الله تعالى ما أكره عبداً على معصية، ولا على ضلالة، ولا رضيها له ولا أمره بها، ولكن رضي لكم الطاعة، وأمركم بها، ونهاكم عن المعصية، واعلم أن هذه الأقوال على كثرتها لا تخرج عن قسمين، فمنهم من حمل قوله: {فهدى} على ما يتعلق بالدين كقوله: {وهديناه النجدين} ومنهم من حمله على ما يرجع إلى مصالح الدنيا، والأول أقوى، لأن قوله: {خلق فسوى والذي قدر} يرجع إلى أحوال الدنيا، ويدخل فيه إكمال العقل والقوى، ثم أتبعه بقوله: {فهدى} أي كلفه ودله على الدين، أما قوله تعالى: {والذي أَخْرَجَ المرعى} فاعلم أنه سبحانه لما بين ما يختص به الناس أتبعه بذكر ما يختص به غير الناس من النعم: فقال: {والذي أَخْرَجَ المرعى} أي هو القادر على إنبات العشب لا الأصنام التي عبدتها الكفرة، والمرعى ما تخرجه الأرض من النبات ومن الثمار والزروع والحشيش، قال ابن عباس: المرعى الكلأ الأخضر، ثم قال: {فجعله غثاء أحوى}.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
الغثاء ما يبس من النبت فحملته الأودية والمياه وألوت به الرياح، وقال قطرب واحد الغثاء غثاءة.
المسألة الثانية:
الحوة السواد، وقال بعضهم: الأحوى هو الذي يضرب إلى السواد إذا أصابته رطوبة، وفي {أحوى} قولان:
أحدهما: أنه نعت الغثاء أي صار بعد الخضرة يابساً فتغير إلى السواد، وسبب ذلك السواد أمور أحدها: أن العشب إنما يجف عند استيلاء البرد على الهواء، ومن شأن البرودة أنها تبيض الرطب وتسود الياب.
وثانيها: أن يحملها السيل فيلصق بها أجزاء كدرة فتسو.
وثالثها: أن يحملها الريح فتلصق بها الغبار الكثير فتسود.
القول الثاني: وهو اختيار الفراء وأبي عبيدة، وهو أن يكون الأحوى هو الأسود لشدة خضرته، كما قيل: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] أي سوداوان لشدة خضرتهما، والتقدير الذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء، كقوله: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً} [الكهف: 1، 2] أي أنزل قيماً ولم يجعل له عوجاً.
{سنقرئك فَلَا تنسى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يخفى (7)}
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً بالتسبيح فقال: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} [الأعلى: 1] وعلم محمداً عليه السلام أن ذلك التسبيح لا يتم ولا يكمل إلا بقراءة ما أنزله الله تعالى عليه من القرآن، لما بينا أن التسبيح الذي يليق به هو الذي يرتضيه لنفسه، فلا جرم كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى فأزال الله تعالى ذلك الخوف عن قلبه بقوله: {سنقرئك فَلاَ تنسى}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال الواحدي: {سنقرئك} أي سنجعلك قارئاً بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه، والمعنى نجعلك قارئاً للقرآن تقرؤه فلا تنساه، قال مجاهد ومقاتل والكلبي: كان عليه السلام إذا نزل عليه القرآن أكثر تحريك لسانه مخافة أن ينسى، وكان جبريل لا يفرغ من آخر الوحي حتى يتكلم هو بأوله مخافة النسيان، فقال تعالى: {سنقرئك فَلاَ تنسى} أي سنعلمك هذا القرآن حتى تحفظه، ونظيره قوله: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ أَن يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] وقوله: {لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] ثم ذكروا في كيفية ذلك الاستقراء والتعليم وجوهاً أحدها: أن جبريل عليه السلام سيقرأ عليك القرآن مرات حتى تحفظه حفظاً لا تنساه.
وثانيها: أنا نشرح صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظ بالمرة الواحدة حفظاً لا تنساه.
وثالثها: أنه تعالى لما أمره في أول السورة بالتسبيح فكأنه تعالى قال: واظب على ذلك ودم عليه فإنا سنقرئك القرآن الجامع لعلوم الأولين والآخرين ويكون فيه ذكرك وذكر قومك ونجمعه في قلبك، ونيسرك لليسرى وهو العمل به.
المسألة الثانية:
هذه الآية تدل على المعجزة من وجهين الأول: أنه كان رجلاً أمياً فحفظه لهذا الكتاب المطول من غير دراسة ولا تكرار ولا كتبة، خارق للعادة فيكون معجزاً الثاني: أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة، فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة سيقع في المستقبل وقد وقع فكان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً، أما قوله: {فَلاَ تنسى} فقال بعضهم: {فَلاَ تنسى} معناه النهي، والألف مزيدة للفاصلة، كقوله: {السبيلا} [الأحزاب: 67] يعني فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه، والقول المشهور أن هذا خبر والمعنى سنقرئك إلى أن تصير بحيث لا تنسى وتأمن النسيان، كقولك سأكسوك فلا تعرى أي فتأمن العرى، واحتج أصحاب هذا القول على ضعف القول الأول بأن ذلك القول لا يتم إلا عند التزام مجازات في هذه الآية منها أن النسيان لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلا يصح ورود الأمر والنهي به، فلابد وأن يحمل ذلك على المواظبة على الأشياء التي تنافي النسيان مثل الدراسة وكثرة التذكر.
وكل ذلك عدول عن ظاهر اللفظ.
ومنها أن تجعل الألف مزيدة للفاصلة وهو أيضًا خلاف الأصل ومنها أنا إذا جعلناه خبراً كان معنى الآية بشارة الله إياه بأني أجعلك بحيث لا تنساه، وإذا جعلناه نهياً كان معناه أن الله أمره بأن يواظب على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة، وهذا ليس في البشارة وتعظيم حاله مثل الأول، ولأنه على خلاف قوله: {لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16].
أما قوله: {إِلاَّ مَا شَاء الله} ففيه احتمالان أحدهما: أن يقال: هذا الاستثناء غير حاصل في الحقيقة وأنه عليه السلام لم ينس بعد ذلك شيئاً، قال الكلبي: إنه عليه السلام لم ينس بعد نزول هذه الآية شيئاً، وعلى هذا التقدير يكون الغرض من قوله: {إِلاَّ مَا شَاء الله} أحد أمور أحدها: التبرك بذكر هذه الكلمة على ما قال تعالى: {وَلاَ تَقولنَّ لِشَيْء إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء الله} [الكهف: 24 23] وكأنه تعالى يقول: أنا مع أني عالم بجميع المعلومات وعالم بعواقب الأمور على التفصيل لا أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة فأنت وأمتك يا محمد أولى بها.
وثانيها: قال الفراء: إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمد عليه السلام شيئاً، إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسياً لذلك لقدر عليه، كما قال: {وَلَئِن شيءنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] ثم إنا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك وقال لمحمد عليه السلام: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] مع أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك ألبتة، وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرفه قدرة ربه حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله وإحسانه لا من قوته.
وثالثها: أنه تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما ينزل عليه من الوحي قليلاً كان أو كثيراً أن يكون ذلك هو المستثنى، فلا جرم كان يبالغ في التثبت والتحفظ والتيقظ في جميع المواضع، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه عليه السلام على التيقظ، في جميع الأحوال.
ورابعها: أن يكون الغرض من قوله: {إِلاَّ مَا شَاء الله} نفي النسيان رأساً، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سهيمي فيما أملك إلا فيما شاء (الله)، ولا يقصد استثناء شيء.
القول الثاني: أن قوله: {إِلاَّ مَا شَاء الله} استثناء في الحقيقة، وعلى هذا التقدير تحتمل الآية وجوهاً أحدها: قال الزجاج: إلا ما شاء الله أن ينسى، فإنه ينسى ثم يتذكر بعد ذلك، فإذاً قد ينسى ولكنه يتذكر فلا ينسى نسياناً كلياً دائماً، روى أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة، فحسب أبي أنها نسخت، فسأله فقال: نسيتها.
وثانيها: قال مقاتل: إلا ما شاء الله أن ينسيه، ويكون المراد من الإنساء هاهنا نَسْخُةُ، كما قال: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا} [البقرة: 106] فيكون المعنى إلا ما شاء الله أن تنساه على الأوقات كلها، فيأمرك أن لا تقرأه ولا تصلي به، فيصير ذلك سبباً لنسيانه، وزواله عن الصدور.
وثالثها: أن يكون معنى قوله: {إِلاَّ مَا شَاء الله} القلة والندرة، ويشترط أن لا يكون ذلك القليل من واجبات الشرع، بل من الآداب والسنن، فإنه لو نسي شيئاً من الواجبات ولم يتذكره أدى ذلك إلى الخلل في الشرع، وإنه غير جائز.
أما قوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى} ففيه وجهان:
أحدهما: أن المعنى أنه سبحانه عالم بجهرك في القراءة مع قراءة جبريل عليه السلام، وعالم بالسر الذي في قلبك وهو أنك تخاف النسيان، فلا تخف فأنا أكفيك ما تخاف.
والثاني: أن يكون المعنى: فلا تنسى إلا ما شاء الله أن ينسخ، فإنه أعلم بمصالح العبيد، فينسخ حيث يعلم أن المصلحة في النسخ. اهـ.